الجزء 1: أسئلة، تتطلب أجوبة
آندي بانيستر، 2001
يرحب المؤلف باتصالك به بالبريد الألكتروني باللغة الأنجليزية على عنوانه:
andybannister@mac.comمقدمة: تحدي يسوع
سواء أكان المرء مسيحيا أم مسلما فإنه لن يستطيع أن يتجنب شخص يسوع المتحدي. ومع أن المسيحيين والمسلمين معاً يقرون بأنه كان شخصية مهمة، فسرعان ما يبدأ الفريقان بالاختلاف فيما بينهما عندما يتحدثان عن يسوع. يؤمن المسيحيون بأن الله الذي خلق العالمين أعلن نفسه لخليقته إعلاناً كاملاً في شخص يسوع. أما المسلمون، فيعتقدون أنه مجرد نبي؛ صحيح أنه نبي عظيم ولكنه لا يمكن بأي شكل أن يرقى إلى مرتبة محمد.
إلا أن المشكلة تتمثل في الحقيقة التالية: إن معظم المسلمين لا يعرفون إلا النزر اليسير عن شخص يسوع الناصري التاريخي. فالقرآن يتضمن القليل عنه، والحقيقة معظم ما هو مدوّن فيه مجرد روايات مفصلة عن ميلاد يسوع. وفي حين يقال أنه علّم الجماهير، لا ترد سوى معلومات قليلة عن مضمون تعاليمه. لا يسجل القرآن أي مواعظ، أو أمثال، أو أياً من كلماته الرقيقة التي قالها للمساكين، وللذين كانت فيهم أرواح نجسة، كما لا يسجل أياً من تحدياته اللاذعة للمؤسسة الدينية في ذلك الوقت؛ فكل ذلك غائب. لذا يحتاج المرء إلى أن يرجع إلى العهد الجديد.
عندما يثير المرء مسألة يسوع ، يبادر المسلمون إلى السؤال: "نحن نكرم يسوع المسيح، فلماذا لا تكرمون محمداً؟" ولكنني أود أن أتحدى أصدقائي المسلمين وقرائي بهذا السؤال: " لو قلت لكم، بلى، إنني أحترم محمداً، فهو أحد أبطال سباق السيارات!"، لنظرتم إلي كما لو أنه قد أصابني مسّ من الجنون. ألا ترون إذا أن الأمر الأساسي، ليس هو ادعاء المرء بأنه يحترم شخصاً ما، لكنه، أولاً وآخراً، بل هي معرفته حقيقة ما يمثله ذلك الشخص. فما لم يدرك المسلمون ما قاله يسوع وما فعله وما ادعاه لنفسه، فإن ادعاءهم بإكرامه، يظل، في أحسن حال أمراً مضللاً. هدف هذه السلسلة هو مساعدة المسلمين على إعادة اكتشاف يسوعهم المفقود ـ ليتحروا بأنفسهم عما فعله وما قاله وما علمه.
خمسة أسئلة
يعد ن. ت. رايت في طليعة علماء العهد الجديد في العالم. وقد ألف كتابين عظيمي القيمة هما، كتاب العهد الجديد وشعب الله، وكتاب يسوع وانتصار الله. ولا بد من قراءة هذين الكتابين لكل من يرغب في أن يحسب بحق باحثاً أكاديمياً. يقترح رايت خمسة أسئلة رئيسية يحتاج، كل من يود تكوين فكرة ما عن يسوع، إلى أن يأخذها مأخذ الجد، ويتمكن من الإجابة عنها 1. وهذه الأسئلة هي:
ماذا كان موقف يسوع من يهودية عصره؟ هل آمن بما آمن به الآخرون في ذلك العصر، أم أنه انفرد عنهم؟ وإذا كان قد انفرد عنهم، فكيف فعل ذلك؟
ماذا كانت أهداف يسوع؟ ما الذي كان يسعى إلى تحقيقه من خلال ما قام به في نطاق يهودية عصره؟
لماذا مات يسوع؟ لماذا سعى القادة اليهود إلى القضاء عليه، وكيف أقنعوا الرومان بتنفيذ مأربهم؟ 2
كيف ابتدأت الكنيسة الباكرة؟ ما الذي حوّل مجموعة من الرجال الخائفين، بعدما فقدوا قائدهم، إلى مجموعة من الواعظين (المبشرين) المستعدين إلى مواجهة الشهادة في سبيل رسالتهم؟ لماذا بدأوا يعظون أن تاريخ إسرائيل قد بلغ أوجه الموعود في شخص يسوع؟
لماذا وجدت الأناجيل في شكلها الحالي؟ يستطيع المرء أن يرى أن الأناجيل تختلف جدا عن الخلفية اليهودية السائدة في فلسطين خلال القرن الأول. ولكنها أيضا تختلف اختلافاً هاماً عن الكنيسة الباكرة. (مثلاً، لا يرد في الأناجيل ذكر لموضوعات حظيت باهتمام بالغ في أجزاء العهد الجديد التالية؛ كالتكلم بالألسنة، والختان، والنقاش حول الأمم وهلمّ جرا).
إن من يقول ببساطة، أن " يسوع كان مجرد نبي" أو يقول أن "الأناجيل قد حُرِّفت"، إنما يقصِّر عن فهم المسألة، وهذا ما ينزع إليه عنفاء المناظرين المسلمين ــ وما أشبههم بمن يسافر إلى ديزني لاند و يأخذ صورة لكشك البطاقات، ثم يعود إلى بيته. وما لم يستطع المرء أن يتحدث عن شخص يسوع على أساس خلفيته التاريخية، وأن يفهم ما الذي حثه وما الذي دفعه إلى متابعة دعوته، ومن ثم يفسر كيف أدى هذا إلى ولادة حركة جديدة تدعى "المسيحية"، فالأفضل له أن يعود إلى نقطة البدء.
لقد فقد المسلمون يسوعهم، لذلك تهدف هذه السلسلة القصيرة إلى مساعدتهم على اكتشافه من جديد، من خلال قيامنا بفحص ما علّم وما فعل وما قال، على أن نحاول الاحتفاظ بصورة ثابتة بأسئلة رايت الخمسة في أذهاننا، بينما نسعى إلى صياغة بعض الأجوبة.
إعادة اكتشاف قوة القصة
لو ألقينا حتى نظرة خاطفة على الأناجيل لظهر لنا أن يسوع كان إنسانا يحب القصص. فكان يبلّغ فكرته عن طريق الأمثال والاستعارات. إلا أن هذا الجانب من شخصية يسوع غائب على نحو مستغرب في ما رواه القرآن عنه. ربما كان مرد ذلك إلى إن القرآن لا يستخدم هذا النوع من أدب "القصة" 3. في كثير من الأحيان يفشل المسلمون في تقدير حقيقة هامة وهي أن يسوع في العهد الجديد راوٍ للقصص. وتضيع عظمته كراو للقصص إذا قصر المرء اتصاله بيسوع على مجرد انتقاء الآيات بغاية إثبات وجهة نظر معينة. 4
إذا كانت القصة تمثل جانباً رئيسياً من خدمة يسوع، فهناك جانبان آخران ينبغي أن نأخذهما بالحسبان بينما نقرأ العهد الجديد. أول هذين الجانبين هو الفعل. كان يسوع رجل فعل. فمن يقرأ الأناجيل سيقرأ مجادلات يسوع مع الفريسيين ومعجزاته ونبوءاته التي تمت، وسلسلة من الأمور الأخرى. لكن لا يمكن فصل تلك عما قاله يسوع وما علمه. فكِّر في القصة المشهورة التي تروي تطهير يسوع للهيكل في أورشليم التي وردت في مرقس 11. فما لم يقرأ المرء هذه القصة في سياقها المباشر، فإنه لن يتوصل إلى تفسيرها الذي يشترك مع تفسير حادثة أخرى حيث لعن يسوع شجرة التين من وجهة نبوية. لماذا طهر يسوع الهيكل؟ يمكن إيجاد الجواب فقط بقراءة ما ورد من أفعال يسوع و أقواله معا. هذه صرخة تطالب بيسوع موحد وليس بيسوع كما يراه المجادلون العنفاء ومن ينتقون بغاية إثبات وجهة نظرهم.
الجانب الثالث من خدمة يسوع يتطلب أن تتفهم يهودية عصره. في يهودية القرن الأول، كانت الرموز من أهم الأمور. ومن أهم تلك الرموز العظيمة ثلاثة: الهيكل والتوراة والروح. هذه الثلاثة جميعها كانت طرقاً للتحدث عن معاملات الله مع شعبه، إسرائيل.
كان الهيكل يمثل حضور الله مع شعبه؛ وكان بإمكان الفرد عن طريق نظام الهيكل الكهنوتي والذبائحي أن ينال الغفران ويُبَرَّر عند إله إسرائيل.
كانت التوراة تمثل الطريقة التي يريدك الله أن تعيش بحسبها. وكانت إلى حد ما تجسيداً للحكمة الإلهية. ولو كنت يهودياً في القرن الأول، وأردت أن تحي حياة مستقيمة، لوجب عليك أن تتبع التوراة. 5
أما الروح، أهمها وأقواها، فكان يمثل وسيلة الله في العمل خلال التاريخ. آمنت اليهودية، كما يؤمن الإسلام اليوم، بإله قدير فائق الوجود المادي. ولكي يحمي تفوقه، تحدث العهد القديم عن "روح الله"، غير المنفصل عن الله ذاته، وهو الوسيلة التي بها يقوم الله بأعماله على الأرض. فالتحدث عن روح الله كان بمثابة التحدث عن الله ذاته؛ راجع بعض مقاطع من العهد القديم، على سبيل المثال، تكوين 2:1؛ 1 صموئيل 23:19؛ أيوب 4:33 إلى آخره...
ما هي أهمية هذا الأمر؟ ذلك أن يسوع نفسه، كما سنرى لاحقا في هذه السلسلة، كان مدافعاً قوياً عن الرموز. إن الطريقة التي نظر بها يسوع إلى هذه الرموز البالغة الأهمية، تضاف إليها الرموز القوية التي أوجدها بنفسه، سوف تساعدنا بينما نحاول أن ننظر عن كثب إلى يسوع ونتأمل في أسئلة رايت الخمسة التي صادفناها أعلاه.
اروِ لي قصة
كان يسوع إذاً، كما رأينا، رجلاً يروي القصص. وكانت قصصه في كثير من الأحيان تتصل بالرموز الدينية في عصره. ومن المؤكد أنه استخدم في تلك القصص لغة وصوراً واستعارات يمكن أن يفهمها معاصروه. إحدى أهم القصص التي رواها ـ وهي قصة تمنحنا استبصاراً ينفذ إلى نمط تفكيره ـ نجدها في الفصل 12 من مرقس. سياق القصة كالتالي؛ كان يسوع قد أحدث لتوه صخباً في هيكل أورشليم، إذ طهره من التجار وتنبأ بخرابه. تحداه القادة الدينيون، وسألوه عن المصدر الذي استمد منه السلطة ليفعل كل ما كان يفعله. فروى لهم يسوع قصة، فقال:
"إنسان غرس كرماً وأحاطه بسياج، وحفر حوض معصرة، وبنى برجاً وسلّمه إلى كرامين وسافر. ثم أرسل إلى الكرّامين في الوقت عبداً ليأخذ من الكرّامين من ثمر الكرم. فأخذوه وجلدوه وأرسلوه فارغاً. ثم أرسل إليهم أيضا عبداً آخر. فرجموه وشجوه وأرسلوه مهانا ثم أرسل أيضا آخر. فقتلوه. ثم آخرين كثيرين فجلدوا منهم بعضاً وقتلوا بعضاً. فإذ كان له أيضا ابن وحيد حبيب إليه أرسله أيضا إليهم أخيراً قائلاً إنهم يهابون ابني. ولكن أولئك الكرّامين قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث. هلم نقتلْه فيكون لنا الميراث. فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك الكرّامين ويعطي الكرم إلى آخرين. أما قرأتم هذا المكتوب . ’الحجر الذي رفضه البنّاؤون هو قد صار رأس الزاوية؛ من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا.‘" (مرقس 1:12-11)
لم يكن لدى الذين سمعوا القصة شك بشأن ما قصد يسوع بها. وهي واضحة جدا حتى بعد مرور 2000 سنة على روايتها. إلا أن ما يلزم توضيحه هو أن "الكرم" في يهودية عصر يسوع كان رمزاً لإسرائيل ذاتها. نستطيع أن نرى ذلك في سلسلة من نصوص العهد القديم، مثل أشعياء 1:5 إن قصة يسوع بكاملها رواية معادة ذكية جدا لأشعياء 1:5-7 وهو مقطع أٌنذِرت فيه اسرائيل بوقوع دينونة الله عليها إذا رفضت أن تفعل الحق. وما إن تدرك المجاز في القصة حتى يسهل عليك فهم بقية القصة:
إذا كان الكرم يمثل إسرائيل، فإلى من يرمز صاحب الكرم؟ الجواب هو، الله ذاته.
الكرامون في القصة يمثلون شعب إسرائيل الذي أعطاه الله الأرض (الكرم).
العبيد يمثلون الأنبياء العديدين الذين أرسلهم الله إلى شعبه، لإقناعهم بالرجوع عن طرقهم العاصية (وهي قصة تروى بتفاصيل دقيقة في كثير من كتابات الأنبياء في العهد القديم).
ولكن بعد أن قوبل جميع العبيد بالتجاهل وبالمعاملة السيئة وقُتِلوا، من الذي جاء بعدهم؟ الجواب ... ابن صاحب الكرم.
ما أهمية هذه القصة؟ هناك عدة أسباب، ليس أقلها رؤية يسوع لنفسه باعتباره يقف في صف مختلف عن العبيد (الأنبياء) الذين سبقوه. كان العبيد مجرد رسل بعثهم صاحب الكرم (الله) إلى الكرامين (الإسرائيليين). أما يسوع فرأى نفسه باعتباره ابن صاحب الكرم، المطيع لأبيه. هذا له مضامين عميقة لفهم إسلامي ليسوع. لأن يسوع لا يرى نفسه كحلقة من سلسلة الأنبياء مسبوقاً بيوحنا المعمدان ومتبوعاً بمحمد. فسلسلة الأنبياء، بحسب رأي يسوع، قد وصلت إلى ختامها ـ إذ كان يوحنا آخر حلقة في تلك السلسلة. أما يسوع فيقف في صف وحده... فهو ابن صاحب الكرم، المطيع لأبيه.
إذا درست أمثلة أخرى من أفعال يسوع وتعليمه، يتضح لك أن يسوع رأى نفسه يقف في فئة مختلفة عن الأنبياء السابقين. تذكر الرموز الرئيسية الثلاثة في اليهودية التي تحدثنا عنها قبل الآن. ذكرنا الهيكل، والتوراة، والروح. وما من يهودي تقي في القرن الأول كان يمكن أن ينظر إلى هذه الأمور إلا باحترام شديد، فهل كان يسوع سينظر إليها بخلاف ذلك؟ ومع ذلك نلاحظ الأمور التالية:
فيما يتعلق بالهيكل، اعتبر يسوع الهيكل أنه لم يعد له نفع ـ وتكلم ضده. بالحقيقة كان كل قصده من الذهاب إلى أورشليم في أوج خدمته، على ما يبدو، هو أن يتكلم ضده وضد النظام الديني المتركز فيه.
أما فيما يتعلق بالتوراة فقد دعا يسوع سامعيه إلى ضرورة حفظ تعاليمها الأساسية؛ لكنه، بحكم سلطانه الفريد الذي يفوق سلطانها، أبطل أجزاء منها أو أضاف إليها، معتبراً أن تفسيره لها هو التفسير المعياري. نلاحظ في العظة على الجبل كما جاءت في متى 5-7 بعضاً من أعظم تعاليم يسوع الأخلاقية. وقد قال عدة مرات مشيرا إلى وصايا في العهد القديم "سمعتم إنه قيل... " وفي كل مرة أردف قائلا.."أما أنا فأقول لكم.." نراه هنا يغير الناموس المتعلق بالطلاق والانتقام والقتل والزنى، ومحبة الأعداء. معتمدا في ذلك على سلطانه الخاص.
وفيما يتعلق بروح الله، نرى أنه فعل ما يصل بنظر يهودي من القرن الأول إلى فعل التجديف. لقد ادعى يسوع أن له سلطاناً على روح الله نفسه؛ في يوحنا 26:15 وعد يسوع بأنه سوف يرسل روح الله... "ولكن متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي ينبثق من عند الآب، فهو يشهد لي".
يميل مسلمو القرن ال21 إلى أن يفوتهم ما كان يعد تجديفاً في نظر اليهودي الصالح؛ كيف يستطيع يسوع، وهو مجرد نجار من الناصرة، أن يدعي بأنه سوف يرسل روح الله؟ إن إرسال روح الله كان حقاً مقصوراً على الله وحده. رأينا في العهد القديم أن روح الله كان يمثل جوهر الله بالذات ونشاط الله ذاته. لا بد أن يكون ادعاء يسوع قد بدا لسامعيه كقولك أو كقولي: "أستطيع أن آمر قوة الله" أو "أستطيع أن أرسل حكمة الله"... أي أنه كان تجديفاً.
يقول ن. ت. رايت الذي التقينا به من قبل:
كان لليهودية رمزان عظيمان يجسدان الحق الإلهي، الهيكل والتوراة: وبدا أن يسوع اعتقد أن دعوته كانت لِيَبِزَّ الأول ويلتف حول الآخر. لقد تصرف يسوع وتكلم كمن اعتقد أنه كان يمثل حركة رجل ـ واحد ضد ـ الهيكل." 6
أيا كانت فكرة يسوع عن نفسه، فمن الواضح أنه اعتقد بأنه لم يكن نبياً عادياً. ففي مَثل الكرمة الذي ورد فيما سبق، رأينا أن يسوع رسم بصراحة خطاً فاصلاً بينه وبين الأنبياء الذين سبقوه. فلم يكن من الممكن أن يأتي أنبياء آخرون بعد أن جاء ابن صاحب الكرم، المطيع لأبيه، لأن الله سوف يتدخل بعدما جاء الابن ليعمل أمراً مختلفاً. هذا الفرق الأساسي بين يسوع وكل الأنبياء مؤكد أيضا بموقفه من رموز اليهودية العظيمة: التوراة، والهيكل، والروح. ومن الواضح أن يسوع، بصفته الابن المطيع، حسب أنه يملك سلطانأ على هذه الرموز الثلاثة. هذا يطرح أسئلة عميقة بشأن فهم المسلمين ليسوع. لا يمكن مطلقاً، أن نعتبر أن محمداً يقف في نهاية صف من الأنبياء يمر بيسوع و يمتد راجعاً إلى الأنبياء الذين سبقوا يسوع. يسوع لم يعتبر نفسه مجرد واحد من عدة أنبياء، وعلى هذا من المؤكد أنه لم يتوقع مجيء أي نبي آخر بعده.
موقف يسوع هذا نابع من فهمه لحقيقة مفادها أن الله المعلن في العهد القديم كان بصدد تحقيق ملكوته الموعود، الذي تطلع إليه أنبياء العهد القديم. لا يستطيع المرء أن يفهم يسوع ما لم يفهم تعليمه بشأن "ملكوت الله"، وهذه عبارة ترد في الأناجيل أكثر من مائة مرة. لكن هذا موضوع سيتناوله البحث لاحقاً في هذه السلسلة.
استنتاجات
ثمة أمر حيوي، كما رأينا، وهو أن يُفهمَ يسوع في سياق يهودية القرن الأول. ولكن عندما يحاول المسلمون أن يقترحوا بأن يسوع كان بصورة فعلية مسلماً من القرن السابع، يكرز برسالة مماثلة لرسالة محمد، فإنما يقومون بتحريف مزدوج للتاريخ. فلم يكن يسوع مسلماً، ولم يكن للسبب ذاته أمريكياً بروتستانتياً من أبناء القرن الحادي والعشرين! لا بد للمرء من أن يفهم يسوع في سياقه الخاص؛ والسبيل الوحيد إلى ذلك هو النظر إليه في إطار أناجيل العهد الجديد.
ثانياً، هذه المقالة بمثابة دعوة إلى قراءة رسالة يسوع ككل. إن أصدقائي المسلمين مولعون، للأسف، بالانتقاء بغرض إثبات وجهة نظر معينة (والمسيحيون أيضا ليسوا بكارهين لذلك الخطأ). إن معظم المسلمين يقتبسون لك آية على الأكثر من هنا وآية من هناك ويعتبرونها أمراً أساسياً. إلا أن فهمنا ليسوع لا يكون صحيحا إلا إذا انسجم مع مادة الأناجيل بكاملها، وخاطب الأسئلة المفتاحية الخمسة التي درسناها من قبل. إذا اكتفينا بدعم صورتنا عن يسوع باقتباس آية أو آيتين، منتزعتين من السياق، ففي رأيي ستكون لدينا صورة خاطئة عن يسوع. يستطيع المسلم بحق أن يجادل بالقول إن الفهم الصحيح للإسلام يتطلب الأخذ بالقرآن كاملاً؛ وليس الأخذ بآية أو آيتين مفضلتين. وأستطيع بطريقة مماثلة أن أجادل بالقول أن تقديم يسوع الذي لا يأخذ بكل أمثال يسوع ومعجزاته وأفعاله هو على حد سواء ناقص ومشوه جداً. إذاً هذا تحد للمسلمين لكي يكتشفوا العهد الجديد مرة أخرى ويًقبِلوا إلى يسوع الذي يقدمه لا أن يمزقوا العهد الجديد إلى نتف.
ثالثاً، رأينا كيف فهم يسوع نفسه باعتبار أنه يقف في صف منفصل عن بقية الأنبياء، وأن سلسلة الأنبياء بالحقيقة قد وصلت إلى ختامها. لقد تحدث يسوع عن نفسه بوصفه ابن صاحب الكرم، المطيع لأبيه، الذي أرسله صاحب الكرم(الله) عندما فشلت سلسلة المرسلين في إعداد الشعب لاستقبال ملكوت الله العتيد. وهكذا فإن تسمية يسو ع بأنه "نبي كمحمد" ليس صورة زائفة بقدر ما هو سؤ فهم أحمق. يمكنك أن تقول إن محمداً كان نبياً إذا شئت، لكنه لم يكن بالتأكيد مثل يسوع، لأن فكرة أنبياء المستقبل لا تتلاءم مع رؤية يسوع الناصري للعالم 7. وإذا شئنا أن نفهم يسوع فهماً صحيحاً، يسوع الإنسان ورسالته، وأن نفهم بصورة أساسية من هو يسوع كما ادعى، فإننا نحتاج إلى أن نفهم التفرد الشامل الذي كان أساساً لكل ما ادعاه وما فعله.
"البحث عن يسوع المفقود" سلسلة منتظمة جديدة على موقع الرد على الإسلام . وسيحاول المؤلف أن يصدر مقالة جديدة في السلسلة مرة على الأقل كل 8 أسابيع. خلال ذلك إن كانت لديك أي أسئلة أو تعليقات، أرجو أن تشعر بملء الحرية في مراسلتي باللغة الأنجليزية بالبريد الألكتروني.
تذييلات ومراجع
1. N T Wright, Jesus and the Victory of God (London : SPCK, 1999) p91-113.
2. من المعترف به طبعاً أن المسلمين لا يعتقدون بأن يسوع قد صلب (بناء على سورة 157:4). لذا فإن هذه النقطة ستناقش بإسهاب في مقالة لاحقة ضمن هذه السلسلة. أما الآن فيكفي أن يُسألََ أصدقاؤنا المسلمون ثلاثة أسئلة:
أ. لماذا يتحدث يسوع بإسهاب عن موته؟ (مثلا في مرقس 31:8؛ 33:10-34). إن من يقول أن هذه "تحريفات لاحقة أدخلها المسيحيون على الإنجيل" إنما يقصِّر كل التقصير عن إدراك مغزى حديث يسوع. وإذا كان قولهم صحيحاً فلماذا لا تَذْكُرُ أيٌّ من هذه الآيات الصَّلْبَ أو الكَفَّارَةَ أو أياً من الأفكار المسيحية اللاحقة؟
ب. ماذا يا ترى أصاب اليهود المسيحيين الأولين، حتى ادعوا بأن الشخص الذي تمثل فيه مسيحهم (مسيّاهم) قد صُلِب؟ إن فكرة "مسيّا مصلوب" بحد ذاتها، كما يؤكد صابر علي المدافع عن الإسلام لا بد أن تكون وقعت في مسامع اليهود كتناقض (بناء على تثنية 22:21-23). ومع ذلك نجد أن الكرازة المسيحية الباكرة نادت بـ: "مسيّا مصلوب" (أعمال 36:2). وما كان اليهود المسيحيون ليخترعوا مثل هذا الادعاء لولا أنهم كانوا متأكدين منه بأنفسهم أشد التأكد.
ج. كيف فهم يسوع نصوص العهد القديم التي تتحدث عن آلام الشخص الممسوح من الله (المسيا). مثلاً أغاني العبد في أشعياء وأمثلة أخرى عديدة في أدب بين العهدين، مثلاً كتاب الحكمة 12:2 وما يليها؟
3. إنني أستخدم تعبير "قصة" بمعنى رواية قصصية. القرآن يحتوي، بالطبع، على مقاطع قصصية، مثال ذلك قصص يوسف وسليمان والنمل وهلم جرا. إلا أن المسلمين السنة لا يسمون ذلك قصصا بل تقارير تاريخية. مهما يكن من أمر فإن القرآن لا يستخدم أدب "القصة" كما تستخدمه الأناجيل. إن افتقار المسلمين إلى الألفة مع أدب القصة يعني أن المسلمين في كثير من الأحيان سيجاهدون عندما يرجعون إلى الأناجيل حيث صاغ يسوع معظم تعاليمه على شكل قصص ـ أمثال يستطيع سامعوه أن يدركوا دلالتها. لا يستطيع المرء أن ينتقي آيات بعينها من القصص منتزعاً إياها من سياقاتها. بدلا من ذلك يحتاج المرء إلى أن يستخدم هذه القصص بشعور بالمسئولية، ويقرأها كوحدة متكاملة (وهذا ما يدعوه العلماء "Pericope").
4. مما يؤسف له أن يرى المرء عنفاء المناظرين المسلمين يقتبسون الأناجيل. إذ لا يستطيع أحد أن ينتزع آيات مستقلة من متى أو مرقس أو لوقا أو يوحنا لإثبات وجهة نظر كهذه. لقد عرض يسوع فكرته عن ملكوت الله (وهذا موضوع جزء آخر من هذه السلسلة سيُبحث في المستقبل) على شكل أمثال وقصص، ولكي يفهم المرء ما يقوله يسوع يجب عليه أن يقرأ ما يقوله يسوع في السياق. وأقترح على قراءنا المسلمين أن يبدأوا بقراء ة إنجيل مرقس في جلسة واحدة. وهو أمر يمكن إنجازه في مدة ساعتين تقريبا. فإذا لم يكونوا مستعدين لصرف هذا الوقت، فإنني أقترح عليهم بكل أدب أن يجدوا مدخلا آخر لدراسة التاريخ ويكفوا عن إعلان آرائهم.
5. جرى التقليد على أن يفهم من التوراة أنها تعني كتب العهد القديم الخمسة. إلا أنها اتسعت، في زمن يسوع، فأصبحت تعني كل كتب العهد القديم.
6. N T Wright, ‘Jesus and the Identity of God’ in the journal Ex Auditu 14 (1998) 42-56, p53.
7. إن الجملة الإسلامية الشعبية التي ترد مباشرة على لسان المسلم عندما يفاجأ بأسئلة صعبة عن يسوع، هي "هذا اختراع مسيحي متأخر". المشكلة هي أن هذا الجواب لا يفيدك في مَثَلِ الكرمة، الذي قدم يسوع نفسه فيه بصفته الابن المطيع لصاحب الكرم، المرسل بعدما فشل كل الأنبياء. إذا كان هذا تحريفاً مسيحياً متأخراً، وجب على المسلم أن يفسر:
أ. لماذا لا يرد فيه ذكر للصلب أو القيامة (اللذين كانت الكنيسة بكل وضوح ستضيفهما).
ب. لماذا لا نجد فيه أي لاهوت عن الكفارة.
ج. التركيز على إسرائيل. هذا التركيز إذا نظر إليه في سياقه لا يعني شيئا إلا إذا روي قبل عام 70 ميلادية، عندما حوصرت أورشليم من قبل الرومان ودمر الهيكل. إن المشكلة في الحجة القائلة "أن الإنجيل قد حرف" هي أنها تقدم عادة من قبل أناس ليسوا في ألفة مع كامل العهد الجديد، أو من قبل أناس جاهلين بتاريخ القرن الأول، وفي كثير من الأحيان جاهلين بالأمرين معاً.