الجزء الأول: ألوهية المسيح
الفصل الأول: شهادة المسيح عن ألوهيته
شهادة المسيح عن ألوهيته هي أهم شهادة، فهو لم يكن يتمتع بشركة متواصلة باللّه فحسب، بل كان لديه اقتناع واضح أنه هو نفسه ذو طبيعة إلهية. هذا ما نراه بوضوح حين أجاب عن سؤال أمّه وهو في الثانية عشرة من عمره: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأبِي؟» (لوقا 2: 49). كانت هذه العبارة من التعبيرات الأكثر شيوعاً في تعليم المسيح. ثم أنه نسب لنفسه مكانة مساوية للّه الآب: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30). وكذلك يذكر الإنجيل مكانة المسيح المساوية للآب، كما جاءت في فصول بشارة يوحنا التالية: (5: 3 و12: 44 و 45، و 14: 9) «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لا يُكْرِمُ ٱلابْنَ لا يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» و «ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. وَٱلَّذِي يَرَانِي يَرَى ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» و «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ».
يكشف المسيح وحده عن اللّه بحق: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلا ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلا ٱلابْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَه» (متى 11: 27). وفي مَثَل الكرّامين الأشرار كشف المسيح عن كونه الإبن وارث الكرمة، معطياً نفسه مركزاً أسمى من الأنبياء. فهو الذي رُفض وذُبح، كما أنه هو الذي صار «رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ» (متى 21: 33 - 45).
كان عمله مطابقاً لعمل الآب: «لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهٰذَا يَعْمَلُهُ ٱلابْنُ كَذٰلِكَ» (يوحنا 5: 19). وشهادة المسيح عن بنوته وعن شركته الخاصة مع الآب وألوهيته كانت واضحة لليهود، حتى أنهم في إحدى المناسبات التقطوا حجارة وحاولوا رجمه بها، فقال لهم يسوع: «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰه» (يوحنا 10: 32 و 33). وعندما اشتكوا عليه أمام بيلاطس قالوا: «لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 19: 7).
وكلمات المسيح في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض هي كلمات اللّه بالذات. فلو أن إنساناً عادياً نطق بها لاعتبره البشر مجدفاً، لكن يسوع حثَّ تلاميذه على أن يكون إيمانهم به مماثلاً لإِيمانهم باللّه: «أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي» (يوحنا 14: 1). كما أنه أخبرهم بأنه سينطلق إلى السماء ليُعِدّ لهم مكاناً، وأنه سيعود ليأخذهم إليه. كما أنه كشف عن كونه «الطريق والحق والحياة» وأنه لا يمكن لإِنسان أن يأتي إلى الآب إلاّ به، وأن من يعرفه يعرف الآب، ومن يراه يرى الآب، فهو والآب واحد. هو ذاهب إلى الآب، وكل صلوات يرفعونها باسم يسوع تكون مقبولة. ووعد يسوع المسيح تلاميذه أنه سيرسل إليهم الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس. ذلك أن الروح القدس سيقوم بوظيفة المعزي والرفيق والمعلم، فهو الذي يحفظ تعاليمهم من الخطأ، وهو الذي يعطي البصيرة الروحية لكل المؤمنين. وكشف المسيح أنه هو المصدر الحقيقي لحياة الكنيسة، وعلى كل مؤمن أن يتَّحد به كما أن كل غصن حي يبقى متصلاً بالشجرة. هم لم يختاروه بل هو الذي اختارهم، حتى أنه قد أصبحت بينهم وبين «العالم» هوَّة عظيمة. ومن يبغض المسيح يبغض أباه أيضاً. وقال يسوع إنّ كل الأشياء التي للآب هي له، وكل ما يطلبونه من الآب باسمه يُعطَى لهم. فهو قد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وكان مزمعاً أن يترك العالم ليعود إلى الآب (يوحنا 14 - 16).
في صلاته الشفاعية المدونة في الفصل السابع عشر من الإنجيل كما رواه يوحنا، طلب المسيح من الآب أن يمجد الابن (أي يسوع نفسه) وقد بنى طلبه هذا على أساس أن تمجيد الابن يؤول إلى تمجيد الآب أيضاً. ثم أننا في تلك الصلاة نرى أنه نسب لنفسه سلطة منح الحياة الأبدية لجميع الذين أعطاه إياهم الآب، وهي الحياة الناتجة عن معرفة اللّه التي ترتبط بمعرفة يسوع بالذات. لكن يسوع ذكر أيضاً أن المجد الذي طلبه من الآب هو نفس المجد الذي للآب، وهو أيضاً ذات المجد الذي شارك فيه الآب أصلاً قبل تكوين العالم.
وأثناء محاكمته أمام مجلس السبعين شهد يسوع المسيح جهاراً وعلانية بألوهيته، وعندما تمَّت المحاكمة حُكم عليه بالموت لأنه كان قد نطق «بتجديف»، حسب ادّعاء اليهود، إشارة إلى شهادته عن ألوهيته. فقد سأله رئيس الكهنة: «أَأَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱلْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً فِي سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ ٱلتَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَٱلْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ ٱلْمَوْتِ» (مرقس 14: 61 - 64).
وعندما أسند المسيح إلى تلاميذه الرسالة العظمى (أي المناداة بالإنجيل في سائر أنحاء العالم) بعد قيامته من الموت وقبل صعوده إلى السماء قال لهم: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 18 - 20).
نلاحظ من كلمات السيد المسيح هذه أنه أورد اسمه (الإبن) واحداً في الثالوث الأقدس، الذي هو الآب والإبن والروح القدس، إذ أوصى المؤمنين به أن يعمّدوا بذلك الاسم، ووعدهم أنه يكون معهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. وعندما نسب إلى نفسه «كل سلطان في السماء وعلى الأرض» كان يعني أنه يملك القدرة على كل شيء. أما وجوده مع أتباعه كل الأيام إلى انقضاء الدهر فيعني أنه موجود وحاضر في كل مكان. ثمّ أن ممارسة المعمودية «باسم الآب والإبن والروح القدس» يضفي صيغة في غاية الأهمية بالنسبة لهذه الفريضة المقدسة. ونلاحظ أن الصيغة هي صيغة الجمع (الآب والإبن والروح القدس) ثلاثة أقانيم أو كيانات مميزة، لكل واحد إسم خاص به. ثم نلاحظ أنه لم يقُلْ باسم الآب وابن وروح قدس، بحذف ال التعريف عن أقنومي الابن والروح القدس، كما لو أن الأمر كان يخص أقنوماً واحداً له ثلاثة أسماء. فالأمر عالمسيح مخلصيذلك. كل أقنوم في الثالوث الأقدس سُمّي بصيغة المفرد، و «ال التعريف» كُررت لكل منهم بصورة دقيقة وواضحة. فمع أن الأقانيم الثلاثة موحَّدون في طبيعة وصفة واحدة (أي اللّه)، إلاّ أنهم يبقون مميزين كأقانيم الواحد عن الآخر. فما أكده يسوع المسيح في هذه الوصية هو أن إيمان أتباعه، ومن يؤمنون بواسطة مناداتهم بالإنجيل، مبنيٌّ على اسم اللّه المثلث الأقانيم «الآب والابن والروح القدس». ومما لا شك فيه أنه قد أشار إلى نفسه في اسم «الابن» واضعاً نفسه على ذات المرتبة مع «الآب» و «الروح القدس» ذلك أنه معهما الإله الواحد السرمدي الكائن بذاته.
شهد يسوع المسيح أنه يتمتع بصفة الألوهية، ولا بد لكل من يدرس العهد الجديد (أي الإنجيل) بطريقة موضوعية أن يصل إلى نفس النتيجة. وهذا هو الانطباع السائد بين الجماهير الغفيرة من قراء العهد الجديد عبر العصور والأجيال.
الفصل الثاني: شهادة الرسل لألوهية المسيح
تقف شهادة من شاركوا في كتابة أسفار الإنجيل (العهد الجديد) في انسجام تام مع تعاليم المسيح وشهادته عن ألوهيته.
ظهر الملاك جبرائيل لزكريا وأخبره أنه سيكون له ولامرأته أليصابات ابن تُسنَد إليه مهمة خاصة وهي «لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّ» (لوقا 1: 17) والملاك نفسه عندما كشف لمريم بأنها ستكون أمّاً للمسيح المنتظر أخبرها بأن ذلك الطفل «يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا 1: 32 و 33). هذه المزايا لا يمكن أن تكون لمن لم يكن إلهاً بالفعل.
«ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى 1: 21). هذه مهمة يستحيل على شخص أقل من اللّه أن ينجزها. والبشير متى عندما أتى على ذكر إحدى نبوات العهد القديم الخاصة بالمسيح قال: «وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَ» (1: 22 و 23) وهي نبوة مستقاة من نبوة إشعياء 7: 14.
أما المجوس(حكماء المشرق) الذين كانوا قد أُعطوا بصيرة روحية معجزية بعد سفرهم الطويل سعياً وراء الملك الموعود به، فما أن وصلوا إلى بيت لحم مكان ولادة يسوع حتى «خَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ» (متى 2: 11). والركوع والسجود له بهذا الأسلوب هو جهل وتجديف، لو لم يكن المسيح هو اللّه الذي ظهر في الجسد.
شهد يوحنا المعمدان وقال عن نفسه إنه مجرد مجهِّز وممهِّد لطريق الآتي بعده، الأعظم منه بكثير، حتى أنه ليس مستحقاً أن يحل رباط حذائه، أي أنه لم يكن مستحقاً أن يكون خادماً له. وعندما ظهر المسيح وتعمد بالماء على يده بعد إصرار مُلحّ، رأى يوحنا المعمدان السموات مفتوحة، وروح اللّه نازلاً عليه (أي على يسوع المسيح) وصوت اللّه الآب من السماء قائلاً: «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»(متى 3: 17). وفي اليوم التالي أشار يوحنا إلى يسوع قائلاً: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» و «... ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ». و «هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 29، 33، 34).
نجد في مقدمة الإنجيل حسب يوحنا 1: 1 تصريحاً واضحاً عن ألوهية المسيح: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ». وقد نسب الرسول يوحنا هذا (وهو غير يوحنا المعمدان) إلى المسيح أموراً لا تُنسب لغير اللّه. فالكلمة وسيلة التعبير عن الفكر، هي بالذات نسبة المسيح إلى اللّه. الكلمة تكشف عن فكرة معينة، والمسيح يكشف عن اللّه بالذات. فالمسيح جاء ليُظهِر اللّه للبشر: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18). لقد وضَّح يوحنا أزلية المسيح في مضمون التعبير «في البدء». عند بدء أو خليقة العالم كان المسيح «موجود». الفعل هو بصيغة الماضي التام في اللغة الأصلية (اليونانية). وهو يبرز فكرة وجود المسيح منذ الأزل. وقد عبّر عن ذلك أحد كبار اللاهوتيين بقوله: «الكلمة كان عند اللّه منذ الأزل، في رفقة الآب كأقنوم مشارك في الألوهية. ومع أنه كان أقنوماً مميزاً، إلا أنه لم يكن كائناً منفصلاً عن اللّه، فالكلمة كان اللّه».
في مقدمة الإنجيل حسب يوحنا اعتبر «الكلمة» (المسيح) كائناً في البدء قبل كل شيء. ليس ذلك فقط بل نرى أن «كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان» (العدد الثالث). أمّا في العدد الرابع عشر فنقرأ: «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّ». والبشير يوحنا نفسه في رسالته الأولى 4: 2 قال عن المسيح «قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ»، فهو يريدنا أن ندرك أن المسيح لم يكن مجرد رفيق اللّه الأزلي، بل أنه هو اللّه الأزلي بالذات. استعمل يوحنا كلمة «جسد» ليشير بصورة عامة إلى الطبيعة البشرية بما تتضمنه من محدودية وضعف. وكشف في مقدمة الأناجيل بكل بساطة عن حقيقة اللّه الأزلي وهو يأخذ وجوداً يشارك فيه الاختبار البشري العادي مع البشر. وبإيجاز فإن اللّه تجسّد في الإِنسان يسوع المسيح «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1 تيموثاوس 3: 16).
وعندما جهر الرسول بطرس بشهادته العظمى لم يكن يعبّر عن مجرد معتقده الشخصي بل كان يعبر عن معتقد غالبية التلاميذ حين قال ليسوع: «أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (متى 16: 16). وهكذا نرى أنه مع مواصلة يسوع الكشف عن ماهية اللّه للبشر فإن توما أكثر التلاميذ تشكُّكاً وصل إلى مرحلة السجود عند قدمي المسيح والاعتراف بالقول: «رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا 20: 28)، هذا القول قَبِلَه المسيح بلا تردد، ولذلك يمكن اعتباره تأكيداً مباشراً من المسيح نفسه، وجزءاً لا يتجّزأ من إعلانه لحقيقة ألوهيته وأنّ قيام الرسل بالمعجزات هو دليل إضافي على ألوهية المسيح. فالمعجزة التي شفى بها بطرس الرجل الأعرج الواقف على باب الهيكل، فعلها بطرس باسم المسيح، إذ قال للرجل: «بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ» (أعمال الرسل 3: 6) وبالفعل مشى الرجل وزالت علّته. لكن ذلك أغاظ زعماء اليهود الذين اعتقلوا بطرس ورفيقه يوحنا لمحاكمتهما. وفي معرض ردّ بطرس على اتهاماتهم واعتراضاتهم قال: «إِنْ كُنَّا نُفْحَصُ ٱلْيَوْمَ عَنْ إِحْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ سَقِيمٍ، بِمَاذَا شُفِيَ هٰذَا، فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِذَاكَ وَقَفَ هٰذَا أَمَامَكُمْ صَحِيح» (أعمال الرسل 4: 9 و 10) وعندما أخرج الرسول بولس الروح الشرير من إمرأة قال: «أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَ» (أعمال 16: 18) أمّا إستفانوس أول شهيد مسيحي فقد شهد قبل موته قائلاً: «أَنَا أَنْظُرُ ٱلسَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَائِماً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (أعمال الرسل 7: 56).
شهد بولس في تعليمه مراراً لألوهية المسيح. وحالما اهتدى إلى المسيح ذهب إلى مجامع اليهود في دمشق وشرع يبشر بالمسيح قائلاً: «أَنْ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (أعمال الرسل 9: 20)، وقد كشف في رسالته إلى أهل كولوسي عن كون المسيح «صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15). كما أنه صرّح بأن «فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاهُوتِ (أي اللّه) جَسَدِيّ» (كولوسي 2: 9). كذلك قال لأهل كورنثوس: «اللّه كان في المسيح مُصالحاً العالم لنفسه» (2 كورنثوس 5: 19). وفي رسالته إلى أهل رومية عندما أشار إلى كون اليهود أنسباء المسيح ذكر موضوع ألوهية المسيح فقال: «وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (9: 5). كذلك نجد بولس يحث المسيحيين في مقاطعة فيلبي على اتّباع مثال المسيح يسوع أيضاً، «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ (أي مشاركاً كلياً في الطبيعة الإلهية، أي صفات اللّه)، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. (أي أنه لم يختر عن أنانية أن يبقى في تلك الحالة المباركة بينما يظل البشر تحت وطأة الخطية والبؤس) لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 6 -
![Cool](https://2img.net/i/fa/i/smiles/icon_cool.gif)
. وهكذا أصبح إنساناً قابلاً لنفسه محدودية الطبيعة البشرية. قدّم نفسه وهو الإله المتجسد بديلاً عن شعبه، وهكذا أيضاً أنجز عمله الخلاصي في حمله للعقاب المفروض على خطاياهم (وهو الألم والموت بالنيابة عنهم). ويضيف: «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْض» (أي أن المسيح الإله المتجسد رُفع. وليس المقصود هنا إضافة لطبيعته الإِلهية، فهي كاملة لا ينقصها شيء، بل أن الطبيعة البشرية المتواضعة التي أخذها المسيح على نفسه هي التي أُعطي لها المجد والإكرام). ويتابع الرسول فيقول إن اللّه الآب «أَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ» ألا وهو اسم «يسوع» (أي مخلص) «لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 9-11) (التعبير رب يدل هنا على الربوبية أو الألوهية المطلقة). فإن أولئك الذين أوحى إليهم اللّه بكتابة العهد الجديد أشاروا إلى المسيح بتعابير وأوصاف وأسماء العهد القديم نفسها التي استعملت بشأن اللّه، فهم أشاروا إليه ك «أدوناي» وهو الاسم العبري الذي يعني «رب». وكلمة رب تُستعمل أيضاً عندما يكون الإسم العبري «يهوه» الذي يعني «الرب الإِله».
عندما ننتقل إلى الرسالة إلى العبرانيين فإننا نجد الكاتب ينسب الربوبية والألوهية للمسيح. يبدأ بالقول إن اللّه كان قد كلّم البشر في الأزمنة القديمة (أي في أيام التوراة) بواسطة الأنبياء، مستخدماً أساليب متنوّعة. «اَللّٰهُ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ (أي حقبة العهد الجديد) فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ. ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي» (عبرانيين 1: 1-3).
أما الرسول يوحنا، كاتب سفر الرؤيا فيخبرنا في معرض وصفه للمدينة السماوية المقدسة «أورشليم الجديدة» أنها لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن «مَجْدَ ٱللّٰهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَٱلْحَمَلُ سِرَاجُهَ» (سفر الرؤيا 21: 23). والتعبيران «اللّه» و «الحمل» هنا هما مترادفان، يتحدثان عن واحد وهو يسوع المسيح.
قام جميع من أوحى إليهم اللّه بكتابة أسفار الأناجيل (العهد الجديد) بتسجيل تعاليم ومعجزات ومواعيد المسيح مفترضين واقع كلامه عن ألوهيته، وكانوا هم أيضاً أعظم وأنسب وأصدق شهود لألوهيته، إذ كانوا قد عرفوه عن كثب. قال عنهم المسيح: «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأنَّكُمْ مَعِي مِنَ ٱلابْتِدَاء» (يوحنا 15: 27).
أما سجلات التاريخ منذ نشأة الكنيسة المسيحية فكلها تُظهِر أنهم قد قدموا شهاداتهم لسيدهم وربّهم بكل أمانة، واستشهد كثيرون في سبيل إيمانهم بالمسيح يسوع.
وفوق شهاداتهم نجد شهادات المؤمنين الذين لم ينتسبوا إلى مجموعة رسل المسيح. فمثلاً نجد قائد الكتيبة الرومانية التي أشرفت على الصلب، إذْ أبصر المسيح مصلوباً أعلن: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ!» (مرقس 15: 39). وأما الأبالسة (الكائنات الملائكية الذين سقطوا وأصبحوا شياطين) والذين كانوا على معرفة بعظمة المسيح الإلهية قبل تجسده، فإنهم عندما أمرهم المسيح أن يخرجوا من الأشخاص الذين كانوا قد سيطروا عليهم، قالوا فيما هم خارجون: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» (متى 8: 29).
على أن قيامة المسيح من الأموات هي البرهان القاطع على طبيعته الإِلهية. لم يكن موت المسيح وقيامته رغم إرادته، بل كانا في نطاق قوّته وخياره الثابتين. عندما تكلم المسيح عن حياته قال: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْض» (يوحنا 10: 18). وكان قد تنبأ مراراً عن قيامته من الموت قائلاً: «وابن الإِنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم.... ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم» (مرقس 8: 31 و9: 31 و10: 33 - 44، ولوقا 18: 33 و24: 7، ومتى 20: 19 و27: 63)، ويشير بولس إلى القيامة كبرهان جازم على لاهوت المسيح فيقول: «وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ... بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ: يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَ» (رومية 1: 4).
الفصل الثالث: ألقاب وصفات المسيح الألوهية
أولاً: ألقاب المسيح
«يسوع» هو الاسم الذي يعني مخلّص، وهو ما نسبه الملاك للمسيح عندما كشف حقيقة مجيئه لكل من يوسف ومريم. قال الملاك ليوسف: «وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى 1: 21) وقال لمريم: «هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ» (لوقا 1: 31). «يسوع» هو الصيغة اليونانية للاسم العبري «يشوع» الذي يعني «يهوه هو الخلاص». أما وقد دُعي المسيح بـ «يسوع» فقد عبَّر هذا عن أهمية المهمة الخلاصية التي جاء لينجزها.
واسم المسيح يعني «الممسوح». وكان اللقب المعروف للمخلّص، وكثيراً ما استُعمل كاسم عَلَم. و «مسيح» يعني الممسوح من قِبَل الرب، وهذا له أساس قوي ومتواصل في تاريخ الشعب العبري عندما كان يتم احتفال تتويج ملوكهم بالمَسْح بالزيت (راجع صموئيل الأول 9: 16 و 10: 1 وسفر صموئيل الثاني 19: 10). فالملك كان يُدعى أحياناً «مسيح يهوه» (راجع سفر صموئيل الأول 24: 6). إذن لقب «المسيح» هو للتذكير بأن الملك هو من أعلى طراز، أما الإسم المركب «يسوع المسيح»، فالمقصود منه هو «المخلص الممسوح» أي المخلص صاحب المكانة عند اللّه.تبيِّن لنا سجلات العهد الجديد حقيقة هامة هي أنّ يسوع تقبَّل من الناس أسمى الألقاب. فقد سمح لهم بأن يصفوه بما يوصف به اللّه. مع أنه منع غيره من قبول ألقاب مثل «المعلم» أو «السيد» (متى 23: 8 - 10) نجده يقبل لنفسه تلك الألقاب (يوحنا 4: 31 و 9: 2)، بل أنه أكثر من ذلك امتدح من أعطوه إياها إذ قال: «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأنِّي أَنَا كَذٰلِكَ» (يوحنا 13: 13). وعندما كانوا يهيئون دالمسيح الهيه للقدس في موكب كبير، أرسل المسيح اثنين من تلاميذه ليأتيا بجحش، وأمرهما أن يقولا لصاحبه إن «... ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ» (مرقس 11: 3). ويُدعى المسيح عبر صفحات العهد الجديد «سيد» ليس بمجرد المعنى الذي فيه يقدم للبشر قسطاً من السلطة والشرف أو المكانة، بل بمعنى كونه حقاً السيد الأسمى ومطلق السيادة في ملكوته. وهو ربّ المسيحيين المؤمنين به، مثلما كان اليهود يؤمنون أن يهوه هو الرب في أيام العهد القديم.
قيل عنه في الإنجيل حسب لوقا 2: 11 و 6: 5 «وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» و «ابن الإِنسان هو ربّ السبت». وفي الرسالة إلى فيلبي 2: 11 و 4: 5 «... يَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ»، ثم «الربّ قريب».
في الرسالة الأولى إلى كورنثوس 2: 8 ذكر: «رب المجد» وورد في الإنجيل حسب متى 15: 22 «ارحمني يا سيد» وكتب بولس الرسول في الرسالة إلى رومية 10: 9 «لأنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ». ومن سفر أعمال الرسل 10: 36 «يُبَشِّرُ بِٱلسَّلامِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ رَبُّ ٱلْكُلِّ». ويضيف سفر الرؤيا في 4: 8 و 4: 11 و 19: 16 ما يلي: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي كَانَ وَٱلْكَائِنُ وَٱلَّذِي يَأْتِي». «أَنْتَ مُسْتَحِقٌّ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْقُدْرَةَ، لأنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ».
«وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ».
لقد أعلن الوحي المقدس المسيح ربّاً للجميع، للذين في السماء وعلى الأرض. له يجب أن تسجد جميع المخلوقات اعترافاً بسلطانه المطلق. وحده له الحق فينا والسلطان علينا لأنه الخالق والفادي.
استعمل الرسول بولس عادة اصطلاحاً تقديمياً في رسائله هو «ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» كشهادة إيمان مسيحية للّه (راجع الرسالة إلى رومية 1: 7 والرسالة الأولى إلى كورنثوس 1: 3 والرسالة الثانية إلى كورنثوس 1: 2 والرسالة إلى غلاطية 1: 3)، الصيغة المركبة هذه هي إشارة للإله الذي يعبده المسيحيون، وهي تشير لكل من الآب والابن في مساواة مطلقة. هكذا فإن الآب والابن متحدان معاً، لا انفصال أو تفريق بينهما في وحدانية جوهرهما ومع ذلك فإنهما يتمتعان باستقلال ذاتي، فبعض الأعمال تنسب للواحد دون الآخر، مثلاً في الرسالة إلى غلاطية 1: 1-3 نقرأ عن «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ ٱلآبِ وَرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأجْلِ خَطَايَانَ». أما البركة الرسولية فهي: «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمين» (2 كورنثوس 13: 14). ففيها يبقى اسم الرب يسوع المسيح مرتبطاً في مساواة مطلقة مع الآب والروح القدس، كمصدر لكل بركة روحية.
كانت قد نُسبت أسماء متنوعة وكثيرة للّه في العهد القديم، نسبها العهد الجديد أيضاً للمسيح. فالبشير متّى عند تسجيله لولادة المسيح نسب إليه الاسم «عمانوئيل» إذ يقول: «وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى 1: 22 و 23. إشعياء 7: 14).
في العهد الجديد يظهر المسيح كملكنا وفادينا في هيئة شخصية أزلية. ويقول الرسول يوحنا في معرض وصفه للرؤيا التي رآها عن عظمة المسيح المتسلط على كل شيء. «فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ ٱلْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: لا تَخَفْ، أَنَا هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ» (رؤيا 1: 17 - 18). وفي نبوة إشعياء 44: 6 نقرأ: «هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ، رَبُّ ٱلْجُنُودِ: أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ وَلا إِلَهَ غَيْرِي». وكما رأينا فإن يسوع المسيح يدعى «ربّ» مراراً وتكراراً في العهد الجديد. لكن هذا الموقف لا ينفرد به العهد الجديد وحده، فالعهد القديم، في معرض التنبؤ عن المسيح، أشار إليه بوضوح أحياناً بنفس اللقب. هذا ما نجده في مزمور 110: 1 «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ». (قابل هذا بما ورد في الإنجيل بحسب متى 22: 44 حيث ينسب المسيح لنفسه تلك الإشارة من سفر المزامير. وكذلك نقرأ في نبوة ملاخي 3: 1 «وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ».نسب العهد الجديد ليسوع إسم «اللّه» أكثر من عشر مرّات (راجع يوحنا 1: 1 و 18 و 20: 28 ورسالة يوحنا الأولى 5: 20 والرسالة إلى العبرانيين 1: 8 ورسالة الرسول بطرس الثانية 1: 1 وسفر أعمال الرسل 18: 26 و 20: 28 والرسالة إلى رومية 9: 5 والرسالة الثانية إلى تسالوالرب قريبي 1: 12 والرسالة إلى تيطس 2: 13 والرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3: 16).
هذا ما يتفق عليه علماء تفسير الكتاب من شتى المذاهب هو أن يسوع، كما أعلن العهد الجديد، هو نفسه ربّ العهد القديم. فكتبة العهد الجديد ينسبون للمسيح أقوالاً من العهد القديم هي في أصلها كانت تشير إلى «أدوناي» أو «يهوه» إسمي الألوهية في العهد القديم. (قابل نبوة أشعياء 40: 3 مع الإنجيل حسب مرقس 1: 3 ونبوة يوئيل 2: 32 مع سفر أعمال الرسل 2: 21 والرسالة إلى رومية 10: 13 ونبوة إشعياء 45: 23 مع الرسالة إلى فيلبي 2: 10 ... قابل أيضاً نبوة إرميا 9: 24 مع الرسالة الأولى إلى كورنثوس 1: 31 و 10: 17 ومزمور 68: 18 مع الرسالة إلى أفسس 4: 8، ونبوة إشعياء 2: 19 مع الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 4: 14 وسفر الرؤيا 22: 13).
علينا أن نلاحظ إذن أن المسيح يُدعى في العهد الجديد بالألقاب التالية:
في الإنجيل بحسب متى
«يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» 1: 21
«عمانوئيل، أي اللّه معنا» 1: 23
«المسيح ابن اللّه الحي» 16: 16
«يسوع المسيح» 16: 20
«ابن الإِنسان» 17: 9
«معلم» 23: 10
في الإنجيل بحسب لوقا
«يسوع الناصري، قدّوس اللّه» 4: 34
في الإنجيل بحسب يوحنا
«الكلمة» 1: 1
«كل شيء به كان» 1: 3
«كُّوٍّن العالم به» 1: 10
«الابن الوحيد» 1: 18، 3: 16
«ابن اللّه» 1: 34 و 49، 20: 31
«ملك إسرائيل» 1: 49
«المسيح مخلّص العالم» 4: 42
«الخبز الحي» 6: 51
«الباب» 10: 7
«الراعي الصالح» 10: 11
«القيامة والحياة» 11: 25
«المسيح ابن اللّه الآتي إلى العالم» 11: 27
«الطريق والحق والحياة» 14: 6
«الكرمة الحقيقية» 15: 1
في سفر أعمال الرسل
«القدوس البار» 3: 14
«رئيس الحياة» 3: 15
«مخلّص» 5: 13
في الرسالة إلى رومية
«إلهاً مبارك» 9: 5
في الرسالة الأولى إلى كورنثوس
«قوة اللّه وحكمته» 1: 24
«ربّ المجد» 2: 8
«رأس كل رجل» 11: 3
في الرسالة الثانية إلى كورنثوس
«صورة اللّه» 4: 4
في الرسالة إلى غلاطية
«فادي» 3: 13
في الرسالة إلى فيلبي
«ربّ» 2: 11
في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس
«ربّ الأرباب» 6: 15
في الرسالة إلى العبرانيين
«وارث لكل شيء» 1: 2
«بهاء مجد اللّه ورسم جوهره» 1: 3
«رئيس الخلاص» 2: 10
«رئيس كهنة عظيم» 4: 14
«رئيس الإِيمان ومكمّله» 12: 2
«وسيط» 12: 24
في رسالة بطرس الثانية
«المخلّص» 1: 1
في سفر الرؤيا
«الرب الكائن» 1: 8
«الكائن والذي كان والذي يأتي» 1: 8
«القادر على كل شيء» 1: 8
«الأول والآخر» 1: 17
«الحيّ» 1: 18
«الألف والياء البداية والنهاية» 21: 6
ثانياً: صفات المسيح
نجد عبر صفحات العهد الجديد الخصائص والصفات الإِلهية الثابتة للمسيح، وذلك لا يحدث على سبيل المجاملة كما في حالات امتداح مخلوقين أتقياء، بل أن ما ينسب إلى المسيح من صفات هو من النوع الذي لا يمكن أن يُنسب سوى للّه وحده. فيما يلي نعرض قائمة بتلك الخصائص:
1 - بلا خطية:
في الإنجيل بحسب يوحنا 6: 69 نجد إقراراً مهمّاً أعلنه الرسول بطرس عن المسيح الذي آمن به: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ». وفي رسالته الأولى يقول بطرس عن سيده: «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (2: 22). ويصرح الرسول بولس بدوره فيقول عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2 كورنثوس 5: 21)، أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول في المسيح: «قُدُّوسٌ بِلا شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ...» (7: 26) وقد تحدث المسيح نفسه عن قداسته وكماله. ففي يوحنا 8: 29 يقول مشيراً إلى كمال أخلاقه وعصمته عن الخطأ بالنسبة لشريعة اللّه: «لأنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». وفي يوحنا 8: 46 تحدّى معارضيه الذين سعوا للتشكيك في نزاهته قائلاً: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» إضافة إلى ذلك فإن الإنجيل يحدثنا عن إقرار الشياطين، ألدّ أعدائه، فيقولون عنه: «قدّوس اللّه» (مرقس 1: 24). هذه كلها اعتبارات مهمّة، خاصة وإن الكتاب المقدس لا يسمح بأن تُضفى مثل هذه الصفات من الكمال على أي من خلائق اللّه.
2 - الأزلية:
مقدمة الإنجيل بحسب يوحنا لها مقامها الفريد من جهة الكشف عن أزلية المسيح. ففي العدد الأول نرى تعريفاً مهمّاً للمسيح ككلمة اللّه المتجسد: «في البدء كان الكلمة»، وفي نفس السفر نجد إعلانات واضحة من فم المسيح نفسه عن أزليته، فيقول عن نفسه: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58). ثم في صلاته الشفاعية الخاصة صلّى المسيح للآب قائلاً: «مَجِّدْنِي بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5)، «لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (العدد 24) بالإضافة إلى هذا نجد مضمون النبوات التي تحدثت عن المسيح في أسفار أنبياء العهد القديم قبل مجيئه بمئات السنين. فالنبي إشعياء دعاه في سفره «أباً أبدي» (9: 6) والنبي ميخا قال عنه: «مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (5: 2). إذن المسيح هو ملك جميع الدهور.
3 - مصدر الحياة: خالقها ومبدعها:
تطرّق الوحي الإِلهي إلى وصف المسيح كما يلي في الإنجيل بحسب يوحنا:
«فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ» - 1: 4
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلا بِي» - 14: 6
«أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» - 11: 25
«لأنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذٰلِكَ أَعْطَى ٱلابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ» 5: 26
فليس المسيح إذن مجرد مصدر للحياة فحسب، بل أنه هو الحياة الحقيقية ذاتها.
4 - الثبات المطلق وعدم التغيّر:
توجز الرسالة إلى العبرانيين وتحسم الأمر هكذا: «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (13:
![Cool](https://2img.net/i/fa/i/smiles/icon_cool.gif)
. «وَأَنْتَ (إشارة إلى المسيح) يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلٰكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى» (1: 10 - 12).
5 - القدرة المطلقة على كل شيء:
لم يتردد السيد المسيح مطلقاً في الكشف عما لديه من قدرة في الوقت المناسب. هذا لا يقتصر على مجرد إجراء المعجزات والعجائب، وكذلك لا غموض في تصريحاته عن هذا الموضوع: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18)، «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي» (متى 11: 27).
كتب الرسول بولس بوحي من الروح القدس في رسالته التعليمية إلى المؤمنين في أفسس: «وَأَخْضَعَ (أي اللّه الآب) كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ» (أفسس 1: 22). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيعرّف المسيح أنه: «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (1: 3). وفي سفر الرؤيا يخبرنا الوحي أن المسيح هو «ٱلرَّبُّ ٱلْكَائِنُ... وَٱلَّذِي يَأْتِي، ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (1:
![Cool](https://2img.net/i/fa/i/smiles/icon_cool.gif)
، والنبي إشعياء تنبأ عنه قائلاً فيه «الإِله القدير» (إشعياء 9: 6).
لكن الأمر لم يقتصر على مجرد بيانات. إنما ما قيل في المسيح، سواء على فمه هو أو على فم غيره، بوحي من اللّه، كان دائماً مدعَّماً بالأعمال الخارقة للطبيعة والتي أُجريت علناً وشهد لها الجميع، الأصدقاء والأعداء على السواء. فقد أقام الموتى (راجع يوحنا 11: 43، 44 ولوقا 7: 14 و15) . وكشف أنه هو الذي سينجز عملية القيامة الأخيرة لجميع الأموات عندما قال: «إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا 5: 28، 29).
6 - العلم المطلق بكل شيء:
قال التلاميذ للسيد المسيح: «اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ...» (يوحنا 16: 30)، والإنجيل المقدس يكشف لنا حقيقة عِلْم المسيح بما يجري في عقول وأفئدة البشر. فعندما صرح للمفلوج بغفرانه لمعاصيه كشف في نفس الوقت عن الاشمئزاز الصامت لمعارضيه بتصريحه هذا: «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟» (متى 9: 4).
وهذا ما يسجله أيضاً البشير يوحنا:
«لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (2: 24،25).
«لأنَّ يَسُوعَ مِنَ ٱلْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ ٱلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ» (6: 64).
«فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (18: 4).
وورد في رسالة بولس إلى كولوسي أنه «... ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (2: 3). وقال المسيح عن نفسه: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلا ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلا ٱلابْنُ» (متى 11: 27). إن ما يكشف عنه المسيح هنا هو في غاية الأهمية. فهو يفهمنا الحقيقة الأساسية في ألوهيته، وهي أن ذاته وكيانه اللاهوتييْن هما على درجة شاهقة من العظمة حتى أنه لا يمكن لأحد غير اللّه نفسه إستيعابهما. ليس ذلك فقط، بل أوضح المسيح لنا من جهة أخرى أن طاقة معرفته اللاهوتية هي غير محدودة كمعرفة اللّه الآب الكاملة والتامة.
كشف الإنجيل بكل تأكيد أن يسوع كان يتمتع بعلم وحكمة مطلقين لا حدود لهما. قال أحد المفكرين بهذا الأمر: «إن أعظم الدلائل على قدرة المسيح الخارقة في فحص وتحليل وقراءة ما يتضمنه قلب الإِنسان من أسرار هي ما كشف عنه بخصوص كل من نثنائيل، والمرأة السامرية، وتلميذه الخائن يهوذا، وتلميذه المغرور بنفسه بطرس. أخبر المسيح وأشار إلى وقائع المستقبل، فتحدث عن موته وقيامته وعودته إلى الأرض». إن مسيرة التاريخ كانت مفتوحة أمام عينيه، فهو قد تتبع متضمنات ما سبق وصار، وهو رأى مسبقاً الأعمال المعجزية الخارقة التي كان سينجزها تلاميذه، كما أنه أخبر عن هزيمة إبليس العتيدة وانتصار ملكوت اللّه الذي يلازم ذلك. فالأرض والسماء، الأزل والأبد، اللّه والإِنسان كل شيء مكشوف أمام عينيه.
7 - الوجود الكلي الذي لا يحده مكان ولا زمان:
عرّفت بشارة يوحنا المسيح على أنه «اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (1: 18). في ذلك تأكيد ليس فقط على أن المسيح ذو علاقة لاهوتية مباشرة باللّه، بل أيضاً هنالك تشديد على أنه بالرغم من تجسُّده ووجوده على الأرض بين البشر فإن صلته الوثيقة ولحمته الحميمة مع اللّه بقيت دون تغيير أو تحوير. فعند تجسده لم يكن يعبّر عن مجرد علاقته السابقة باللّه، أي أنه كان مع اللّه، بل أنه بقي أيضاً مع اللّه. هذا في الواقع ما يعنيه العدد الأول من بشارة يوحنا والذي يقول دون إبهام: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ (أي المسيح)، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ». فالمسيح إذن كان مع اللّه وبقي عند تجسده في صورة بشرية «كائن» مع اللّه. ويلقي يسوع نفسه ضوءاً على تلك الحقيقة في قوله: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلا ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (3: 13). قال المصلح الشهير يوحنا كالفن بصدد هذا النص من الإنجيل: «المسيح تجسد، ولكنه لم يُحصَر ولم تقلّ قيمته، فابن اللّه نزل من السماء بطريقة معجزية خارقة للطبيعة، في نفس الوقت الذي فيه بقي موجوداً في السماء. لقد اختار أن يولد من عذراء بطريقة عجيبة لكي يعيش على الأرض ويُعلَّق على الصليب. لكنه في الوقت ذاته لم يكفّ عن أن يملأ الكون بوجوده، كما كان الكون معمَّراً بوجوده منذ البداية».
ثم نلاحظ أن المسيح نفسه كشف عن حقيقة وجوده الكلي وغير المحدود عندما قال: «حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 20) وكذلك في قوله: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 20). إنّ نصّ الإنجيل الأخير هذا ورد على لسان يسوع عندما كان مجتمعاً برسله على جبل الزيتون بعد قيامته من الأموات. وهو هنا يطمئنهم ويؤكد لهم استمرارية وجوده وقوته معهم، حتى أنه أزاح الستار على أنّ تأثيره عليهم ومعهم لن يكون تأثير معلّم أو نبي ميت ومقبور، بل هو تأثير من هو حاضر وحيّ دائماً. أما كونه موجوداً في كل مكان فهذا يعني أنه يبقى دائماً قريباً، قادراً على حماية وتعزية شعبه حتى لا يصيبهم أذى أو أسى غير ما يراه هو ويسمح به لأجل صالحهم ومنفعتهم. لقد كان حضور المسيح مع تلاميذه بعد قيامته من الموت أكثر وضوحاً من وجوده الجسماني قبل موته. فبعد قيامته أصبح إيمانهم وعلاقتهم به قوة انتصارية دافعة، بينما كان اعتبارهم له قبل موته دائم التأرجح والتشكك. أشار الرسول بولس إلى حقيقة وجود المسيح المطلق في كل مكان بقوله: «مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (أفسس 1: 23).
8 - الخلق:
مرة أخرى نجد أن تقديم الإنجيل بحسب يوحنا للمسيح واضح ومختصر ومفيد: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (1: 3) - «كُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ» (1: 10). وما أوحى به الروح القدس عبر كتابة الرسول بولس ليس أقل شأناً في الشهادة للمسيح الخالق: «فَإِنَّهُ فِيه (في المسيح) خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لا يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كولوسي 1: 16 و 17). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فكتب عن الأمر مذكِّراً بما كان أنبياء العهد القديم قد سبق وقالوه عن المسيح القادم إلى العالم: «وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ (فقال اللّه على لسان داود): كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ...» (عبرانيين 1:
![Cool](https://2img.net/i/fa/i/smiles/icon_cool.gif)
. وهكذا كان قد ورد في المزمور 45: 6. وفي (1: 10 و11) يتابع كاتب الرسالة إلى العبرانيين اقتباسه من أقوال الأنبياء عن المسيح: «وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى...» وهذا ما ورد في مزمور 102: 25. وكاتب هذه الرسالة هنا سعى ليس لمجرّد تذكيرنا بما يقوله العهد القديم في المسيح، بل أيضاً لإِيقافنا على حقيقة كون العهد القديم يقول في المسيح ما لا يُقال سوى في اللّه بالذات، فهو كان قد سبق وقال في المسيح: «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3) وهذا ما ينطبق تماماً على ما ورد في رسالة الرسول بولس الأولى إلى المؤمنين في كورنثوس: «... وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بِهِ جَمِيعُ ٱلأَشْيَاءِ» (8: 6).
لقد كتب بصدد هذا الموضوع أحد كبار المفكرين المسيحيين يقول: «يخبرنا الكتاب المقدس أن المسيح هو خالق الكون بأسره، ما هو منظور وما هو غير منظور. هذا لا يتضمن فقط ما في الكون الطبيعي والمادي من شموس ونجوم لا تُحصى، بل أيضاً جميع أنواع الحياة الشخصية بما في ذلك الملائكة والبشر. الجميع مدينون له بوجودهم، وهو يشرف على كافة أرجاء الكون، حامياً له من التفكك والانحلال والخراب. وتفيدنا كلمة اللّه أن المسيح هو مصدر كل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى، وهو الغاية النهائية لكل الخليقة. إذن ليس المسيح هو خالق كل الأشياء فقط، بل إنها جميعاً خُلقت لأجله هو، فهو الآخِر كما هو الأول، وهو النهاية كما هو البداية».
9 - السلطان والحق في مغفرة الخطايا:
عندما شفى يسوع المفلوج وغفر له خطاياه تململ الكتبة متسائلين في سرّهم: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلا ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» (مرقس 2: 7). لكن يسوع عرف ما في قلوبهم وبادرهم قائلاً: «وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا....» (مرقس 2: 10). وأما المفلوج فقد أمره يسوع، بعد أن غفر له خطاياه، أن يحمل سريره ويذهب إلى بيته. وهكذا فإننا نرى أن المسيح يربط بين صلاحيته لمغفرة خطايا البشر وقدرته الألهية على شفاء أمراضهم. وهو لم يتكلم عن مجرد السلطة على مغفرة خطية الآخرين، بل أكّد أنه هو نفسه البديل الذي يحمل عقاب الخطية عنهم. وأعلن لتلاميذه بعد قيامته من الموت «وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ» (لوقا 24: 47). أمّا شهادة يوحنا المعمدان الذي جاء ليمهد الطريق لمجيء المسيح فقد كانت واضحة وجلية أمام الجميع: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29)، وبشّر الرسول بطرس الأمم قائلاً: «لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا...» (أعمال الرسل 10: 43) وكتب بو